الفلسفة **البــــاك**مفهوم النظرية
ملتقى طلاب الفهد :: الإسلام والحياة :: قصص مواعظ :: الفلسفة
صفحة 1 من اصل 1
الفلسفة **البــــاك**مفهوم النظرية
يدل مفهوم النظرية في التمثل الشائع على الرأي الشخصي، أو التمثلات والأحكام الفردية التي قد يتبناها شخص معين حول قضية ما أو مسألة ما. لذا يشترط أن تكون النظرية مرتبطة بالممارسة والعمل. ومن هذا نستنتج أن مفهوم النظرية في الدلالة الشائعة يحمل بعدا برجمائيا.
وفي اللغة العربية، فإن لفظ النظرية مشتق من النظر، الذي يحمل في دلالاته معنى التأمل العقلي. وكلمة Théoria اليونانية تحمل معاني التأمل والملاحظة العقلية. وفي الفرنسية فإن كلمة Théorie تفيد أن النظرية هي بناء (أو نسق) متدرج من الأفكار، يتم فيه الانتقال من المقدمات إلى النتائج.
وتكاد الدلالات اللغوية تقترب - إلى حد كبير – من المدلول الفلسفي للنظرية. فهذا ابن رشد يربط النظر بمفهوم الاعتبار. ولما كان الاعتبار – في نظر ابن رشد – هو القياس، فإن النظر العقلي هو أفضل أنواع البرهان لأنه يتم بأفضل أنواع القياس. أما لالاند Lalande فيعطي للنظرية بعدا فلسفيا يقترب كثيرا من الدلالة المعجمية بالفرنسية. ونستخلص من ذلك أن النظرية تتعارض مع الممارسة، وتتقابل مع المعرفة العامية لأن هذه الأخيرة معرفة إمبريقية (نابعة من التجربة اليومية). وتتعارض أيضا مع المعرفة اليقينية، لأن النظرية بناء فرضي استنتاجي. وتتعارض أخيرا مع المعرفة الجزئية، لأن النظرية بناء شمولي.
من خلال هذه التقابلات، يمكن أن نتمثل الإشكالية الفلسفية التي يحاول هذا الدرس مقاربتها والتي سنعمل على التعبير عنها من خلال التساؤلات التالية :
· ما هي نوعية العلاقة بين النظرية والممارسة؟
· ما هي وظائف النظرية؟
· من أين تستمد النظرية مبادئها؟ هل تستمدها من الواقع أم أن النظرية إنشاءات حرة؟
2. النظرية والممارسة
إن الفلاسفة اليونان يفصلون بين النظرية والممارسة، حيث يرتبط المفهوم عندهم بالتأمل العقلي المتعالي عن الواقع المادي الحسي. فكلما توغلت النظرية في التجريد؛ كلما حققت – في نظرهم – أبعادها الإبستيمية(= المعرفية). وذلك يرجع إلى طبيعة المجتمع اليوناني الذي كان فيه العمل اليدوي مستهجنا لارتباطه بالعبيد. فكان شعارفلاسفة اليونان هو "المعرفة من أجل المعرفة". وفي مقابل ذلك نجد فلسفات حديثة تربط النظرية بالممارسة. وفي هذا النهج تسير الماركسية لأن ماركس يؤمن بضرورة ربط النظرية بالبراكسيس la Praxis (= الفعل) وكل تفكير متعال عن الواقع تفكير ميتافزيقي. هكذا أراد ماركس لفلسفته أن تكون ممارسة اقتصادية وأيديولوجية. وفي هذا السياق يقول ماركس :"لقد اهتم الفلاسفة حتى الآن بتفسير الوجود.. وآن الأوان أن نعمل على تغييره لا تفسيره".
أما مالينوفسكيMalinowski فيرى أن ما من عمل يدوي، ولو كان بسيطا، فإنه يحمل بين ثناياه تفكيرا نظريا ذي أبعاد علمية بيداغوجية (تربوية)، ويهدف إلى تحقيق غايات، ويحمل بصمات الطبيعة الإنسانية الصناعية والفكرية والمدنية.
إن الاختلاف حول علاقة النظرية بالممارسة يتطلب منا إبداء رأي حاسم في الموضوع. ومن أجل ذلك نجعل من العلم الحكم والفيصل. لقد كان العلم، يعتبر يقينا لأن كل الإبداعات العلمية تجد لها تطبيقا على أرض الواقع. لكن مع التحولات الإبستيمولوجية التي عرفها العلم، تأكد أن كثيرا من النظريات العلمية غير قابلة للتطبيق (الممارسة) بشكل مباشر، وذلك لا ينتقص من قيمتها أبدا. فالفيزياء – مثلا – التي كانت تحتكم إلى التجربة في كل أحكامها ونتائجها، أصبحت اليوم أنساقا فرضية استنباطية، وأصبحنا نتحدث اليوم عن فيزياء رياضية.
انطلاقا من هذا، نستنتج أنه لا تجب مقارنة المعرفة العلمية بالمعرفة العامية. فهذه الأخيرة إمبريقية وبراغمائية، تحتكم إلى الممارسة والمنفعة المباشرة. أما المعرفة العلمية فهي صروح نظرية فرضية-استنباطية، لا يراعى في صدقها إلا بناؤها وتماسكها المنطقيان. لهذا لا يمكن اعتبار الممارسة معيارا ضروريا لتصديق النظرية. هكذا يحق لنا أن نتساءل ما هي وظائف النظرية إذن؟
3. وظائف النظرية
إن النظرية بناء فكري يربط منطلقات بنتائج. فالنظرية العلمية تبنى وتشيد على مجموعة من الفرضيات التي توجه بدورها التجربة العلمية. وتجدر الإشارة إلى أن النظرية تقودها كذلك، مبادئ عقلية منطقية خاصة منها: مبدأ السببية ومبدأ الحتمية. والأول يفيد أن ما من ظاهرة إلا ولها سبب، والثاني يعني أن نفس الأسباب تعطي دائما نفس النتائج. وغالبا ما يتولد عن النتائج ما يصطلح على تسميته بالقانون. والقانون العلمي هو مجموع العلاقات الثابتة بين ظواهر معينة، ويتميز بالخصائص التالية : قيامه على التجربة، قابلية التكرار (لارتكازه على مبدأ الحتمية)، قابلية التعميم، يتيح إمكانية التنبؤ، قابلية الصياغة الرياضية.
من هذا المنطلق نستطيع القول : إن القوانين العلمية إذا ما تألفت فيما بينها، فإنها تشكل نظرية علمية متماسكة. وقد تختلف وظائف النظرية باختلاف الأهداف التي توجه القانون العلمي. فقد تكون وظيفة النظرية وصفية إذا كانت القوانين تفيد مجرد الوصف كما هو الحال بالنسبة لقانون كوبرنيك مثلا حينما أكد أن الكواكب تدور حول الشمس دورة إهليلجية (دون أن يتضمن القانون سبب ذلك). وقد تكون وظيفتها تفسيرية إذا كانت القوانين تهدف إلى تقديم العلاقات السببية التي تؤطر بعض الظواهر كقوانين غاليلي Galilée المفسرة لظاهرة سقوط الأجسام (مثلا لما أثبت أن الهواء هو الذي يفسر اختلاف تسارع الأجسام أثناء السقوط). وحين تهدف النظرية إلى احتضان ظواهر مستقبلية تفسيرا وتحليلا فإن وظيفتها تكون تنبئية. وتجدر الإشارة إلى أن النظرية ذات الوظيفة التفسيرية تكون وظيفتها تنبئية كذلك.
إذا كانت الفيزياء الكلاسيكية تقدم إمكانية تصنيف وظائف النظرية، فإن ذلك لا يمكن تعميمه على النظرية العلمية حيث تشكل البيولوجيا والعلوم الإنسانية الاستثناء. وذلك نظرا للاختلاف الحاصل بين المفكرين وهو صراع يرقى أحيانا إلى الاستخفاف بالنتائج التي يصل إليها الآخر. فداخل البيولوجيا نشهد صراعا تقليديا بين المدرسة اللاماركية والمدرسة الداروينية. فإذا كانت اللاماركية – مثلا – تؤكد إمكانية انتقال الخصائص المكتسبة بالوراثة؛ فإن أغست فايزمان A.Weismann يبين أن الخلايا تنقسم إلى خلايا جسمية SOMA وخلايا جرثومية (أو جنسية) GERMEN والبيئة لا تؤثر إلا الخلايا الأولى. ومن ثمة هناك احتمال ضعيف لانتقال الخصائص المكتسبة وراثيا. أما في مجال العلوم الإنسانية، فإن الأمر سيكون أكثر تعقيدا، لأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة ومتغيرة، تدخل في تكوينها اعتبارات وجدانية وأخلاقية ودينية. لذا يصعب إيجاد قوانين علمية دقيقة ومضبوطة. ولما كانت محاولة ربط العلوم الإنسانية بالعلوم الدقيقة أضر بها أكثر مما نفعها – كما يرى مالينوفسكي – أضحت مهمة البحث عن نموذج آخر للعلمية، بالنسبة للعلوم الإنسانية، أمرا ضروريا.
يتبين، إذن، أن تحديد الوظيفة العلمية للنظرية قضية لا تتوقف على طبيعة النظرية فقط، بل تتوقف أيضا على طبيعة المناهج المستخدمة والمجالات العلمية التي تبنى فيها النظرية. و من هذا المنطلق نتساءل: ما هي طبيعة العلاقة بين النظرية والواقع؟
4. النظرية والواقع
بما أن النظرية العلمية تسقط كثيرا من تمثلاتها على الواقع، فإن الكثيرين يعتبرون هذا الأخير المحك الحقيقي للنظرية. ومن هذا المنطلق تصبح التجربة العلمية الخطوة الأساسية لبناء النظرية مادامت التجربة هي التي تؤكد أو تكذب الفرضيات. لكن مع التحولات العلمية الحديثة تمت إعادة النظر في علاقة النظرية بالواقع والتجربة. فهذا إنشتاينEinstein يؤكد "أنه لا يمكن استنتاج القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية انطلاقا من التجربة، إذ يجب أن تكون إبداعا حرا.." فالنظريات العلمية أصبحت لا تخضع للتحقق التجريبي. ومن هذا المنطلق افترض كارل بوبرK. Poper معيارا آخر للتحقق من صدق النظرية، ألا وهو معيار التزييف Falsification . ويعني ذلك أن تكون النظرية العلمية قابلة للتكذيب (دون أن يكون التكذيب مطلقا، وكل ما يعني ذلك فقط أن لكل نظرية المجال الذي تصدق فيه). وهذا ما سيجعل الأنساق العلمية – في نظر بوبر – تخوض صراعا مريرا من أجل البقاء.(= انظر مثلا إلى الاختلاف الحاصل بين الهندسة الأقليدية، والهندسات اللاأقليدية).
ومع ظهور الميكروفيزياء، تغير مفهوم الواقع. حيث أصبح الواقع لا يعني معطى تجريبيا يوجد خارج الذات، وإنما أصبح مفهوما يتغير من الظواهر الماكروسكوبية إلى الظواهر الميكروسكوبية. فالفوتونات والإلكتونات أضحت تفقد كل فردية وتميز. فلا أحد يستطيع الجزم بأنها موجية أو جسمية: لأنه كلما ظهرت بمظهرها الموجي اختفى مظهرها الجسمي، والعكس صحيح. ومن ثمة تصدق النظرية الجسمية والموجية معا. هكذا أصبح – في اعتقاد باشلار – الاهتمام أكثر من ذي قبل بالفرضيات، فأصبحت الفيزياء أكثر فأكثر فرضية-استنباطية.
بناء عليه، أمكن القول بأن التجربة - في صورتها التقليدية – أصبحت متجاوزة، وأصبح الواقع مفهوما عقليا يمكن تمثله بصور متعددة. إلا أن بعض الإبستيمولوجيين يتحفظون من هذا الاستنتاج، حيث يعتقد بوانكاريهH. Poincré، أن المعيار الأساسي للنظرية هو معيار الملاءمة. ويفيد ذلك أن نتساءل أي النظريات تلائمنا أكثر؟ وسيقودنا ذلك – لا محالة – إلى ترجيح نظريات على حساب أخرى.
وكتخريج عام، نستنتج، أنه مهما تعددت دلالات النظرية، فإن إشكالية تحديد علاقتها بالممارسة ستظل إشكالية قائمة. أما تحديد وظائفها فستظل عالقة بالوظائف الإبستيمولوجية التي تعرفها البيولوجيا والعلوم الإنسانية. وفيما يخص علاقة النظرية بالواقع، فهي قضية رهينة بتطور العقلية: فالعقلية الكلاسيكية لا تستطيع أن تتصور النظرية العلمية في غياب التجربة بمفهومها التقليدي. في حين أن العقلية المعاصرة، هي عقلية منفتحة تستطيع أن تحول التجربة المختبرية إلى تجربة ذهنية… ويجب التأكيد أخيرا على أن ربط النظرية بمعيار الملاءمة معناه السقوط في أحضان الفكر البرغمائي، وبالتالي رفض كثير من النظريات العلمية بدعوى أنها لا تلائمنا.
وفي اللغة العربية، فإن لفظ النظرية مشتق من النظر، الذي يحمل في دلالاته معنى التأمل العقلي. وكلمة Théoria اليونانية تحمل معاني التأمل والملاحظة العقلية. وفي الفرنسية فإن كلمة Théorie تفيد أن النظرية هي بناء (أو نسق) متدرج من الأفكار، يتم فيه الانتقال من المقدمات إلى النتائج.
وتكاد الدلالات اللغوية تقترب - إلى حد كبير – من المدلول الفلسفي للنظرية. فهذا ابن رشد يربط النظر بمفهوم الاعتبار. ولما كان الاعتبار – في نظر ابن رشد – هو القياس، فإن النظر العقلي هو أفضل أنواع البرهان لأنه يتم بأفضل أنواع القياس. أما لالاند Lalande فيعطي للنظرية بعدا فلسفيا يقترب كثيرا من الدلالة المعجمية بالفرنسية. ونستخلص من ذلك أن النظرية تتعارض مع الممارسة، وتتقابل مع المعرفة العامية لأن هذه الأخيرة معرفة إمبريقية (نابعة من التجربة اليومية). وتتعارض أيضا مع المعرفة اليقينية، لأن النظرية بناء فرضي استنتاجي. وتتعارض أخيرا مع المعرفة الجزئية، لأن النظرية بناء شمولي.
من خلال هذه التقابلات، يمكن أن نتمثل الإشكالية الفلسفية التي يحاول هذا الدرس مقاربتها والتي سنعمل على التعبير عنها من خلال التساؤلات التالية :
· ما هي نوعية العلاقة بين النظرية والممارسة؟
· ما هي وظائف النظرية؟
· من أين تستمد النظرية مبادئها؟ هل تستمدها من الواقع أم أن النظرية إنشاءات حرة؟
2. النظرية والممارسة
إن الفلاسفة اليونان يفصلون بين النظرية والممارسة، حيث يرتبط المفهوم عندهم بالتأمل العقلي المتعالي عن الواقع المادي الحسي. فكلما توغلت النظرية في التجريد؛ كلما حققت – في نظرهم – أبعادها الإبستيمية(= المعرفية). وذلك يرجع إلى طبيعة المجتمع اليوناني الذي كان فيه العمل اليدوي مستهجنا لارتباطه بالعبيد. فكان شعارفلاسفة اليونان هو "المعرفة من أجل المعرفة". وفي مقابل ذلك نجد فلسفات حديثة تربط النظرية بالممارسة. وفي هذا النهج تسير الماركسية لأن ماركس يؤمن بضرورة ربط النظرية بالبراكسيس la Praxis (= الفعل) وكل تفكير متعال عن الواقع تفكير ميتافزيقي. هكذا أراد ماركس لفلسفته أن تكون ممارسة اقتصادية وأيديولوجية. وفي هذا السياق يقول ماركس :"لقد اهتم الفلاسفة حتى الآن بتفسير الوجود.. وآن الأوان أن نعمل على تغييره لا تفسيره".
أما مالينوفسكيMalinowski فيرى أن ما من عمل يدوي، ولو كان بسيطا، فإنه يحمل بين ثناياه تفكيرا نظريا ذي أبعاد علمية بيداغوجية (تربوية)، ويهدف إلى تحقيق غايات، ويحمل بصمات الطبيعة الإنسانية الصناعية والفكرية والمدنية.
إن الاختلاف حول علاقة النظرية بالممارسة يتطلب منا إبداء رأي حاسم في الموضوع. ومن أجل ذلك نجعل من العلم الحكم والفيصل. لقد كان العلم، يعتبر يقينا لأن كل الإبداعات العلمية تجد لها تطبيقا على أرض الواقع. لكن مع التحولات الإبستيمولوجية التي عرفها العلم، تأكد أن كثيرا من النظريات العلمية غير قابلة للتطبيق (الممارسة) بشكل مباشر، وذلك لا ينتقص من قيمتها أبدا. فالفيزياء – مثلا – التي كانت تحتكم إلى التجربة في كل أحكامها ونتائجها، أصبحت اليوم أنساقا فرضية استنباطية، وأصبحنا نتحدث اليوم عن فيزياء رياضية.
انطلاقا من هذا، نستنتج أنه لا تجب مقارنة المعرفة العلمية بالمعرفة العامية. فهذه الأخيرة إمبريقية وبراغمائية، تحتكم إلى الممارسة والمنفعة المباشرة. أما المعرفة العلمية فهي صروح نظرية فرضية-استنباطية، لا يراعى في صدقها إلا بناؤها وتماسكها المنطقيان. لهذا لا يمكن اعتبار الممارسة معيارا ضروريا لتصديق النظرية. هكذا يحق لنا أن نتساءل ما هي وظائف النظرية إذن؟
3. وظائف النظرية
إن النظرية بناء فكري يربط منطلقات بنتائج. فالنظرية العلمية تبنى وتشيد على مجموعة من الفرضيات التي توجه بدورها التجربة العلمية. وتجدر الإشارة إلى أن النظرية تقودها كذلك، مبادئ عقلية منطقية خاصة منها: مبدأ السببية ومبدأ الحتمية. والأول يفيد أن ما من ظاهرة إلا ولها سبب، والثاني يعني أن نفس الأسباب تعطي دائما نفس النتائج. وغالبا ما يتولد عن النتائج ما يصطلح على تسميته بالقانون. والقانون العلمي هو مجموع العلاقات الثابتة بين ظواهر معينة، ويتميز بالخصائص التالية : قيامه على التجربة، قابلية التكرار (لارتكازه على مبدأ الحتمية)، قابلية التعميم، يتيح إمكانية التنبؤ، قابلية الصياغة الرياضية.
من هذا المنطلق نستطيع القول : إن القوانين العلمية إذا ما تألفت فيما بينها، فإنها تشكل نظرية علمية متماسكة. وقد تختلف وظائف النظرية باختلاف الأهداف التي توجه القانون العلمي. فقد تكون وظيفة النظرية وصفية إذا كانت القوانين تفيد مجرد الوصف كما هو الحال بالنسبة لقانون كوبرنيك مثلا حينما أكد أن الكواكب تدور حول الشمس دورة إهليلجية (دون أن يتضمن القانون سبب ذلك). وقد تكون وظيفتها تفسيرية إذا كانت القوانين تهدف إلى تقديم العلاقات السببية التي تؤطر بعض الظواهر كقوانين غاليلي Galilée المفسرة لظاهرة سقوط الأجسام (مثلا لما أثبت أن الهواء هو الذي يفسر اختلاف تسارع الأجسام أثناء السقوط). وحين تهدف النظرية إلى احتضان ظواهر مستقبلية تفسيرا وتحليلا فإن وظيفتها تكون تنبئية. وتجدر الإشارة إلى أن النظرية ذات الوظيفة التفسيرية تكون وظيفتها تنبئية كذلك.
إذا كانت الفيزياء الكلاسيكية تقدم إمكانية تصنيف وظائف النظرية، فإن ذلك لا يمكن تعميمه على النظرية العلمية حيث تشكل البيولوجيا والعلوم الإنسانية الاستثناء. وذلك نظرا للاختلاف الحاصل بين المفكرين وهو صراع يرقى أحيانا إلى الاستخفاف بالنتائج التي يصل إليها الآخر. فداخل البيولوجيا نشهد صراعا تقليديا بين المدرسة اللاماركية والمدرسة الداروينية. فإذا كانت اللاماركية – مثلا – تؤكد إمكانية انتقال الخصائص المكتسبة بالوراثة؛ فإن أغست فايزمان A.Weismann يبين أن الخلايا تنقسم إلى خلايا جسمية SOMA وخلايا جرثومية (أو جنسية) GERMEN والبيئة لا تؤثر إلا الخلايا الأولى. ومن ثمة هناك احتمال ضعيف لانتقال الخصائص المكتسبة وراثيا. أما في مجال العلوم الإنسانية، فإن الأمر سيكون أكثر تعقيدا، لأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة ومتغيرة، تدخل في تكوينها اعتبارات وجدانية وأخلاقية ودينية. لذا يصعب إيجاد قوانين علمية دقيقة ومضبوطة. ولما كانت محاولة ربط العلوم الإنسانية بالعلوم الدقيقة أضر بها أكثر مما نفعها – كما يرى مالينوفسكي – أضحت مهمة البحث عن نموذج آخر للعلمية، بالنسبة للعلوم الإنسانية، أمرا ضروريا.
يتبين، إذن، أن تحديد الوظيفة العلمية للنظرية قضية لا تتوقف على طبيعة النظرية فقط، بل تتوقف أيضا على طبيعة المناهج المستخدمة والمجالات العلمية التي تبنى فيها النظرية. و من هذا المنطلق نتساءل: ما هي طبيعة العلاقة بين النظرية والواقع؟
4. النظرية والواقع
بما أن النظرية العلمية تسقط كثيرا من تمثلاتها على الواقع، فإن الكثيرين يعتبرون هذا الأخير المحك الحقيقي للنظرية. ومن هذا المنطلق تصبح التجربة العلمية الخطوة الأساسية لبناء النظرية مادامت التجربة هي التي تؤكد أو تكذب الفرضيات. لكن مع التحولات العلمية الحديثة تمت إعادة النظر في علاقة النظرية بالواقع والتجربة. فهذا إنشتاينEinstein يؤكد "أنه لا يمكن استنتاج القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية انطلاقا من التجربة، إذ يجب أن تكون إبداعا حرا.." فالنظريات العلمية أصبحت لا تخضع للتحقق التجريبي. ومن هذا المنطلق افترض كارل بوبرK. Poper معيارا آخر للتحقق من صدق النظرية، ألا وهو معيار التزييف Falsification . ويعني ذلك أن تكون النظرية العلمية قابلة للتكذيب (دون أن يكون التكذيب مطلقا، وكل ما يعني ذلك فقط أن لكل نظرية المجال الذي تصدق فيه). وهذا ما سيجعل الأنساق العلمية – في نظر بوبر – تخوض صراعا مريرا من أجل البقاء.(= انظر مثلا إلى الاختلاف الحاصل بين الهندسة الأقليدية، والهندسات اللاأقليدية).
ومع ظهور الميكروفيزياء، تغير مفهوم الواقع. حيث أصبح الواقع لا يعني معطى تجريبيا يوجد خارج الذات، وإنما أصبح مفهوما يتغير من الظواهر الماكروسكوبية إلى الظواهر الميكروسكوبية. فالفوتونات والإلكتونات أضحت تفقد كل فردية وتميز. فلا أحد يستطيع الجزم بأنها موجية أو جسمية: لأنه كلما ظهرت بمظهرها الموجي اختفى مظهرها الجسمي، والعكس صحيح. ومن ثمة تصدق النظرية الجسمية والموجية معا. هكذا أصبح – في اعتقاد باشلار – الاهتمام أكثر من ذي قبل بالفرضيات، فأصبحت الفيزياء أكثر فأكثر فرضية-استنباطية.
بناء عليه، أمكن القول بأن التجربة - في صورتها التقليدية – أصبحت متجاوزة، وأصبح الواقع مفهوما عقليا يمكن تمثله بصور متعددة. إلا أن بعض الإبستيمولوجيين يتحفظون من هذا الاستنتاج، حيث يعتقد بوانكاريهH. Poincré، أن المعيار الأساسي للنظرية هو معيار الملاءمة. ويفيد ذلك أن نتساءل أي النظريات تلائمنا أكثر؟ وسيقودنا ذلك – لا محالة – إلى ترجيح نظريات على حساب أخرى.
وكتخريج عام، نستنتج، أنه مهما تعددت دلالات النظرية، فإن إشكالية تحديد علاقتها بالممارسة ستظل إشكالية قائمة. أما تحديد وظائفها فستظل عالقة بالوظائف الإبستيمولوجية التي تعرفها البيولوجيا والعلوم الإنسانية. وفيما يخص علاقة النظرية بالواقع، فهي قضية رهينة بتطور العقلية: فالعقلية الكلاسيكية لا تستطيع أن تتصور النظرية العلمية في غياب التجربة بمفهومها التقليدي. في حين أن العقلية المعاصرة، هي عقلية منفتحة تستطيع أن تحول التجربة المختبرية إلى تجربة ذهنية… ويجب التأكيد أخيرا على أن ربط النظرية بمعيار الملاءمة معناه السقوط في أحضان الفكر البرغمائي، وبالتالي رفض كثير من النظريات العلمية بدعوى أنها لا تلائمنا.
ملتقى طلاب الفهد :: الإسلام والحياة :: قصص مواعظ :: الفلسفة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى